السبت، ١ سبتمبر ٢٠٠٧

الجواد والفارس

الجواد والفارس

قصة محمود البدوى

اشتهرت قرية " الريحانة " بخيولها العربية الأصيلة وكان الشيخ عبد الرحمن يملك أجمل الخيول على الاطلاق وأعرقها أصالة .. كان يملك الجواد " مبروك " أسرع جواد وقعت عليه العين وأبرع من رقص فى سامر ..

كان القرويون يذهبون إلى مولد " الفرغل " ومولد " سيدى جلال " ليشاهدوا " مبروك " فى الساحة متبخترا مزهوا وعلى ظهره الأبنوسى الناعم كالديباج سرجه المطعم بالفضة وخيوط الذهب ..

ومن بداية العصر تبدأ الخيول المسرجة فى الرقص والناس من حولها حلقات والأبصار فى الدائرة الرحبة تحدق وتعجب لما يمكن أن يفعله الحيوان ..
وعندما ينزل " مبروك " تستقبله الجماهير بالفرحة الغامرة والتهليل والتصفيق فهم يعرفونه بنظرته المتوهجة وغرته المشرقة على الجبين ثم بالحركة المفردة التى لا يقوم بها جواد آخر فى كل الموالد عندما يحيى الشعب المتحمس يرفع رجله اليمنى ويمدها أكثر من دقيقة وهو ساكن الجوارح كالتمثال ..
ومن خلال ذلك الحشد الذى يموج ويجزر فى المولد يبدو فارسه المربوع الأسمر " عبد الرحمن " فى زعبوطه الكحلى وعمامته المزهرة يمسك اللجام .. وما يمسكه .. ويرد على تحية الجماهير أيضا بابتسامة خفيفة وأنف شامخ ..
وينسى الناس من حوله أى مشهد آخر فى الساحة .. ينسون الحاوى ورقص الغوازى وحتى سرك " عمار " ..
وفى غمرة الاعجاب والوله .. يأتى الفارس الذى لا يشق له غبار بحركة أخيرة .. فيغمز الجواد غمزة خفيفة فيرفع هذا رجليه الأماميتين فى وثبة رائعة ثم ينطلق متبخترا والعرق ينضح من جلده الأسمر البراق .. وفى لجامه الرغوة .. وقد تفتح منخراه جدا .. ليملأ صدره القوى ويزفر ..
كأنه يعبر عن أسفه على مفارقة الجموع التى تحبه ويحبها ..
***
وظل الجواد " مبروك " فى قلب رواد المولد محبوبها الأوحد ..
ومرت الأيام وزحفت المدنية على القرية الوادعة المجاورة لشريط السكة الحديد ية .. فأقيمت بجوار بستانها الغربى محطة صغيرة .. ودخل القطار وصفر .. وأصبح أهل القرية .. يصعدون إليه ويهبطون منه بأحمالهم وأثقالهم ..
ورأى " مبروك " القطار .. وهو يقضم البرسيم فى الحقل .. فرفع إليه وجهه ونشر أذنيه .. فى تطلع المستغرب .. ثم اعتاد عليه وألفه وأصبح كلما وقف القطار فى المحطة يرد عليه بالصهيل ..
***
وفى المدى البعيد تناقصت الخيول فى القرية .. ثم انقرضت .. وحتى الجمال والحمير .. فعل بها الزمان وأصبح اللورى يمر على الجسر وينزل إلى الدرب .. يحمل أكياس القطن وزكائب الغلال ..
ونسى الناس شهرة القرية فى نتاج الخيل .. ولكن " مبروك " ظل فى القرية .. وان كف عن الذهاب إلى الموالد ..
وظل الشيخ " عبد الرحمن " يركبه فى غدواته القريبة والبعيدة ولا يستعمل القطار ..
وكان ( مبروك ) قد كبر وسمن قليلا .. ولكنه ظل محتفظا بجماله .. وجلده الأبنوسى الناعم وعينيه المتألقتين .. كان فيهما ذكاء لا تراه عين إنسان ..
وقد أطلقه الشيخ " عبد الرحمن " يمرح فى مرعاه .. لم يكن يقيده أبدا ولا يضع عليه السرج إلا وهو ذاهب إلى البندر أو إلى السوق ..
وكان أهل القرية جميعا يعرفون ( مبروك ) وطباعه .. فما استوى قط على ظهره سوى صاحبه ..
ولكن عبد المقصود وهو فلاح كسول عنيد .. لم يصدق هذه الإشاعة .. وأراد أن يجرب حظه مع الجواد وهو ذاهب إلى الحقل يبذر البرسيم .. وجد الجواد أمامه فى ندوة الفجر يرعى وحده وليس قريبا منه أنس ولا جان .. وكان على ظهر عبد المقصود كيلة البرسيم والحقل على مدى فرسخ واحد ففكر أن يضعها على ظهر الجواد ويمضى به وتقدم منه فى غبش الظلمة ليستعمله .. فى هذه الجولة القصيرة ..
وعندما اقترب من ( مبروك ) رأى فى عينه الألفة التى طمأنته .. فوضع يده على كاحله وطبطب قبل أن يركب وتراجع قليلا ليثب وإذا بالجواد يباغته برفسة قوية ذهبت به إلى المستشفى ..
وخرج بعدها يعرج .. حاملا العلامة والعبرة لمن يتطاول على ( مبروك ) ..
***
وكان الشيخ " عبد الرحمن " يترك للجواد حقل برسيم يكفيه طوال العام عندما اشتد الطلب على البرسيم وارتفع ثمنه جدا وكان الفلاحون يقولون له :
ـ تترك هذا الغيط بحاله للحصان يا شيخ .. انه يدر عليك أكثر من مائة جنيه لو زرعته خضارا والحصان شاخ ويكفيه التبن والشعير ..
فيرد عليهم مبتسما :

ـ أن مبرك قطعة من لحمى وأعز عندى من ولدى ( زيدان ) ولن أجعله يأكل الدريس الناشف وحده فى شيخوخته ..

وطعن الشيخ " عبد الرحمن " فى السن أيضا .. ولم يعد يذهب بالجواد إلى الموالد ..
وظل السرج المطهم فى الرواق يذكره بأجمـل أيام حياته .. ذكرى
تنتشى لها نفسه .. وتتفتح براعم قلبه ..
وكان الفارس يستعمل سرجا آخر إذا ذهب إلى السوق .. أما فى جولات الحقول فكان يركبه من غير سرج ولا لجام .. حتى وهو ذاهب ليرى المياة فى ( الحوال ) ..
وكان مبروك يتبختر وحده فى المزرعة كلها يستقبل الشمس والهواء وهو يعلم أنه المفرد فيها ..
والجميع يعرفونه .. ويعرفون صاحبه كفارس عديم النظير .. ومن أهل القرية من عاصر بطولة الفارس الشجاع " عبد الرحمن " فى ثورة 1919 وكان فى وقتها شابا فى العشرين من عمره وعرفوا أنه قاتل الإنجليز وهم متحصنون فى المدرسة الثانوية بأسيوط .. وقتل منهم كثيرا ..
وألقى الرعب فى قلوبهم .. وتجمعوا عليه ذات يوم وحاصروه ليقتلوه .. وظل يقاتل وحده ..
وكان أبرع منهم جميعا فى مراوغته ومباغتته ودقة تصويبه فلم يتمكنوا منه وفك الحصار ..
وظل الشيخ عبد الرحمن محتفظا بالبندقية التى قاتل بها فى هذه المعركة طوال هذه السنين ..
***
وعندما اشتعلت الحرب بين العرب وإسرائيل ,, وأخذ اليهود لأول مرة يغيرون بطائراتهم على القرية المصرية .. كان قلبه يتوهج ويشتعل نارا .. ولم يكن يدرى ما الذى يفعله على وجه التحقيق ..
ثم وجد نفسه يقول للفلاحين بعد صلاة المغرب :
ـ إذا سقط .. ناحوم هنا فقطعوه بفئوسكم ..
كان يحرق الارم ويميز من الغيظ كلما سمع بغارة .. وفى ظهر يوم مرت طائرة فوق رءوسهم وتطلع إليها الفلاحون وهم يعزقون الأرض .. وكانت منخفضة جدا فوق مستوى النخيل .. وسمعوا بعدها صوت المدافع فى المدينة تطاردها بعنف ..
***
وفى أصيل يوم من أيام الإثنين .. التقط الشيخ " عبد الرحمن " أزيز طائرة وهو على ظهر الجواد .. التقط الأزيز من بعيد ثم رآها .. شاهد طائرة ( هليوكوبتر ) ناحية الغرب تحلق .. ثم تنزلق هابطة حتى تكاد تمس رؤوس الأشجار الصغيرة .. فوجه مبروك نحوها بسرعة وفهم الجواد الأصيل مقصد فارسه فانطلق فى سرعة الريح .. يطارد الطائرة فى خطوط ملتوية حتى لا يكون تحت هدف الطيار ..
وأخذ الشيخ عبد الرحمن يتبع الطائرة فى مسارها وعيناه تتوهجان نارا ..
ورآه الفلاحـون فى الحقول يطلق النـار عليها بشدة .. ثم يميل عن
ظهر الحصان ليتفادى مدفع الطائرة .. ويتعلق بجانب .. وهكذا يميل وينتصب .. والجواد العظيم يسابق الريح طواعا لفارسه ..
ثم اقتربت الطائرة من الأرض .. واقتربت ووراءها مثل السحابة .. ورأى الفارس الفرصة الذهبية ليصيبها قبل أن تسقط شيئا .. وجد أمامه وهو يتابعها ترعة ( السنطة ) تعترض طريقه وهى ترعة لم يختبر فيها منذ شبابه جواده الأصيل لأنه لم يكن فى حاجة إلى هذا الاختبار ولكنه الآن سيفعلها وهو يطير مع الريح .. فوجه الجواد نحو الترعة .. وأدرك الجواد الذكى غرض فارسه .. فوثب الوثبة الرائعة .. وكتم الفلاحون أنفاسهم وهم يتابعون المشهد من بعيد ..
وخيل إليهم أنهم يرون الأسطورة .. أسطورة الأساطير رجعت إليهم وبدت أمامهم بصورتها الباهرة وكل ما فيها من جبروت ..
***
وعنـدما رجـع الشيخ " عبد الرحمن " رأوا وجهه متجهما وعليه
غضب الأسد الذى أفلتت منه الطريدة .. فقد هربت منه الطائرة وسواء أصابها بطلقاته أو لم يصبها .. ولكنه كان يود أن يشاهدها ساقطة ..
وكان غيظه قد انفجر على الشىء الذى فى يده .. على بندقيته العتيقة فلوى ماسورتها وهى حامية .. ولم يعجب الفلاحون لشىء عجبهم لرجل يطوى الحديد بين يديه وهو فى السبعين ..










=====================================
نشرت فى مجلة المجلة بالعدد رقم 171 فى مارس 1971 واعيد نشرها فى كتاب " صقر الليل " 1971

وفى كتاب قصص من حرب إسرائيل الأولى والثانية والثالثة والرابعة
الناشر مكتبة مصر ط 2007

=====================================

المفتـــــــــــاح

المفتــــاح

قصة محمود البدوى


ضغط على الجرس فى رفق .. وفتحت " الشغالة " الباب فدخل متأنيا حابسا صوت قدميه بعد أن طالعه السكون التام من داخل الشقة .. إذ لم يسمع حسا على الاطلاق ..
وجلس على أول مقعد وقع عليه بصره فى البهو .. وهو يدير عينيه فيما حواليه باحثا فى قلق عن الشىء الذى جاء من أجله ..

وسأل الشغالة فى لهفة :
ـ أين الست يا سعدية ..؟
ـ نائمة .. ومن الصبح لم تقابل أحدا ..
ـ هذا أحسن .. دعيها تستريح .. ولا داعى لإخبارها بقدومى إلا بعد أن تصحو ..
ـ حاضر ..

ورأت على وجهه الارهاق الشديد والحاجة إلى النوم فسألته هامسة :
ـ أعمل لك قهوة .. يا سى هشام ..؟
ـ طيب ..
وانسابت " الشغالة " فى سكون إلى الممر المفضى إلى المطبخ وأصبح هشام .. وحده فى الصالة يسمع دقات قلبه ودقات الساعة المعلقة على الحائط فى مواجهته .. واستراح إلى الضوء الشاحب الذى وجده داخل البيت كله .. فالإضاءة كانت خفيفة وجميع النوافذ الخارجية كانت مغلقة والستائر مسدلة ..
واستراح إلى كل ما فصله عن العالم الخارجى الذى قدم منه منذ لحظات ..
وأحس بالدفء بعد البرودة الشديدة التى شعر بها وهو فى الخارج .. وكانت الليلة شتوية متقلبة الريح غائمة ..
وأحس لأول مرة فى حياته رغم قلة الضوء بالأشياء التى حوله .. كأنه يدخل هذا البيت لأول مرة .. أحس بالكراسى والمناضد الصغيرة .. والصور على الجدران والساعة على الحائط ..

كانت كل هذه الأشياء كئيبة وحزينة كأنها تحس بغيبة صاحبها .. بغيبة من كان يعطيها شكلها ولونها ..

وأجال طرفه فيما يحيط به وحدق ساهما .. وبدا كل شىء حزينا قاتما يثير الشجن عند لمسه .. وبمجرد رؤيته .. وغاب فى تيه من الفراغ .. وجلس واجما مطرقا .. وقد اجتمع عليه بؤس الحياة وشرها فى لحظة ..

ثم رفع رأسه عندما أحس بحركة خفيفة فى غرفة " سهير " وأدرك أنها نهضت من الفراش ..

أحس بهـا وهى رائحـة وغـادية فى الغرفة فى ثوبها الأسود محلولة
الشعر .. مهدلة الثوب .. غير عابئة بزينتها كأنثى فى رونق شبابها ..
ثم رآها تجلس منحنية على الكرسى الوحيد فى الغرفة وهى تتشنج وسمع بكاءها ونشيجها .. وشاهد وهو جالس تقلصات جسمها وتشنيجه .. ولكنه لم يستطع أن يدخل عليها الغرفة ويفعل شيئا لإسكاتها ..

وأدرك أن " الشغالة " أخبرتها بحضوره فأثار هذا ذكرياتها وشجنها .. أثار عواطفها وأطلق أحاسيس قوية كانت محبوسة ..

كان الباب الموارب يسمح له بأن يراها بكل جسمها وهى منثنية بجانب على الكرسى .. طاوية جذعها .. ودائرة برأسها نصف دورة حتى لاتراه ..

ولكنها فى غفلة منه وضعت على رأسها شالها .. فعرف أنها نهضت وتناولت الشال ثم رجعت إلى مكانها دون أن يشعر بها ..

ورغم الجلسة المنثنية والتى تبدو غير مريحة على الاطلاق .. فقد بدت قامتها الطويلة وبدت رشاقة جسمها .. ودوران كتفها .. وامتلاء صدرها .. الذى كان الثوب الصوفى يغطيه بقوة ويضمه .. ولكنه لا يخفى تقاطيعه ومفاتنه ..

وظهر الجيد أبيض ناعما .. فقد انحسر الشال الأسود عن شعرها الفاحم .. وعن عنقها فى لحظة غير واعية من لحظات الانفجار الحسى ..

وأبصر أنها تلفتت تجاهه ورأته ثم حولت رأسها على عجل بحركة انثوية عفوية تفعلها الأنثى بالغريزة فى ساعات الحزن العصبية ..

وانتصبت تتمشى فى الغرفة تروح جيئة وذهابا ..

وفى أثناء هذه الحركة الرتيبة التى كررتها دون ملل عشرات المرات غطت بالشال شعر رأسها الأسمر المتموج كله وأذنيها الصغيرتين وجيدها ونصف خديها ..

ولمح فى ساقها جوربا أسود طويل العنق يصل إلى الفخذين وينثنى هناك طيتين ثم يترك لون المرمر ونعومته فى نصف دائرة كاملة .. ويتيه بعدها البصر فى سواد الحرير المنحنى ونسجه ..

ووضعت فى القدمين حذاء أسود مطفى اللمعان .. وكانت قد خلعت فردة من الحذاء أثناء مشيها فى داخل الغرفة .. ثم جلست لتلبسها .. وواجهته هذه المرة بوجهها الشاحب وعينيها المخضلتين بالدمع ..

ومسحت عينيها بمنديل صغير طوته كثيرا حتى تكرمش .. وخطفت نظرة فى المرآة ثم خرجت إليه متثاقلة تمسك رأسها وعبراتها ..

ومد إليها يده .. فتناولتها فى استرخاء .. وأحس بيدها باردة رخصة .. وواجهته بعينين واسعتين فيهما من التساؤل أكثر مما فيهما من الحزن ..

وسألته بصوت حزين :
ـ أجئت من مدة ..؟
ـ من ربع ساعة ..
ـ لم أحس بك .. إلا منذ قليل ..
ـ أعرف هذا ..

وهمت .. ثم سمع منها صوتا رخيما يختلف فى جرسه ونبراته ..
ـ وهل وصل ..؟
ـ وصل بعد الظهر إلى الإسماعيلية .. ونقلناه إلى القاهرة منذ ساعة ..
ـ أحملوه إلىَّ فى الصباح .. سيبقى معى اليوم بطوله ..
ـ حاضر ..

وخشى أن يقول لها أنهم دفنوه وأنه جاء إليها بعد الدفن مباشرة .. خشى أن يقول لها هذا فيتمزق قلبها ويبح صوتها من النحيب وكان قد حمل متاعه .. قلمه ومحفظته وساعته وملابسه .. وأبقاه فى بيته بعيدا عنها فى هذه الأيام الحزينة عليها وعندما تتماسك وتملك زمام نفسها سيقدم لها هذه الأشياء التذكارية ..

وسألته :
ـ شربت قهوة ..؟
ـ شربت ..
ـ وتشرب معى ..؟ أحس برأسى ينفلق نصفين ..
فهمس :
ـ أشرب ..

وغابت عنه ولاحظ أنها وهى ذاهبة إلى المطبخ تمشى بنفس الخطوة السريعة وتتحرك بمثل نشاطها الذى جبلت عليه .. فلم يغير الحزن من حركتها ..

وحملت له " الكنكة " على الصينية كعادتها معه .. وصبت فى فنجانه ونظر إلى عينيها وترقرقهما بالبكاء وإلى أهدابها .. ولون خديها وشفتيها .. وأدرك كيف يظل الجمال الآسر باهرا حتى فى أشد حالات الحزن ..

وسمعها تقول بعد أن وضعت الفنجان :
ـ وما الذى ستفعله أنت ..؟
فأجاب مرتبكا :
ـ أنا ..! أى شىء ..؟
وارتفع صوتها :
ـ ما الذى ستفعله لتثأر لصديقك الأوحد ..؟
ـ ما الذى أفعله أنا ..؟
ـ أجل ..

واحتد صوتها وحدقت فى وجهه بعينين فيهما من الغضب أكثر مما فيهما من الوداعة التى الفها منها ..

ـ أنا .. لا شىء .. لقد عبر ليقاتل فقتل .. وهذا يحدث لكل انسان ..
ـ وأنت تفعل مثله .. تعبر من نفس الموضع ..
ـ أنا .. أكون قاتلا .. ؟ لا ..
ـ وإن لم تكن قاتلا .. ستكون مقتولا ..
ـ أنا ..؟
ـ أنا .. وأنت .. والذى قتل " مصطفى " وقتل النساء والأطفال فى بيوتهم ومدارسهم سيقتلنى ويقتلك ..
ـ لا أحب أن أكون قاتلا ..
ـ أنت جبان ..
ـ أبدا .. وأنت تعرفينى ..
ـ إذن فلازلت تشعر بالمرارة فى فمك لأنهم تركوك فى البعثة .. وأخذوا غيرك ..
ـ وغير هذا كثير ..
ـ أنس كل شىء .. أنس هذه الصغائر لأننا فى محنة .. واثأر لصديقك .. لا أحد يفعل هذا غيرك .. فقد لازمته ملازمة الظل خمسة عشر عاما ..
ـ يفعل هذا غيرى ..
ـ بل تفعله أنت .. لأنك متدرب على القتال وجاهز .. وستحمل
نفس مدفعه ونفس خنجره .. وستضربهم نفس الضربة التى أصابت صديقك .. ستضرب فى القلب ..
ـ لا أحب أن أكون قاتلا ..
ـ ستكون .. وإلا .. لن ترى وجهى ..

فارتجف .. وارتعدت أوصاله .. وأمسك بيدها ..
ـ أترك يدى .. انك جبان .. وتحشو رأسك بالسفاسف .. اننا فى محنة ..
ـ وهل أنا مسئول عنها ..؟
ـ انه وطنك .. أرضك .. وترابك وعرضك ..
ـ أنا طبيب ..
ـ وما الذى ستفعله بطبك عندما يضمنا التراب ..
ـ كثير علىَّ أن أكون قاتلا ..
ـ إذا لن أجعلك ترى وجهى بعد اليوم ..سأرحل ..

وأعرضت عنه .. وأخذ فمها يرتعش .. فاصفر لونه وتمشت فى أوصاله رعدة شديدة وتركته واستدارت ودخلت غرفتها ..

وعادت تحمل شيئا فى يدها ..
وحدق فيه مستغربا ..
ـ من أين جئت بهذا ..؟
ـ كان عندنا .. ولم يستعمله " مصطفى " وستستعمله أنت ..
ومدت يدها .. فتناول منها " الرشاش " صامتا ولم ينبس ..
وقالت بهدوء وقد ظهر الارتياح على وجهها :
ـ سأجىء لك بحقيبة تضعه فيها ..

وحمل الحقيبة ومشى إلى الباب .. وتذكر شيئا كان قد وضعه فى جيبه وكاد ينساه فأخرجه بسلسلته الصغيرة وقدمه لها وهو يهمس بحزن :
ـ المفتاح .. وجدته فى جيبه ..
ـ أبقه معك ..

ونظرت إليه ففهم غرضها وشعر بانتفاضة وقوة ووضعت يدها على كتفه .. واستدار وخرج ..

***
وفى الصباح شعرت بالقلق .. انتابها قلق قاتل .. وندمت على أنها دفعته إلى القتال .. وخشيت أن تكون السبب فى فقده وكفكفت من عبراتها .. وأصبح تفكيرها كله فى هشام .. شغلت به وأصبح يتحرك معها فى حجرات البيت وأركانه .. ويدور ويسمع همسها ..
وكانت تستيقظ فى الليل على أحلام مروعة وأحلام ذهبية .. وتطالع الصحف فى لهفة علها تسمع عنه خبرا .. ولكنها لم تعثر على شىء ..
وعاشت حزينة ملتاعة ولم تكن وهى الوحيدة فى بيتها تحاول الاتصال
بأحد من الناس فى هذه المدينة الضخمة .. القاهرة ..

ومن البداية صدت كل الذين حاولوا أن يجعلوا من مقتل زوجها صورة رخيصة للدعاية .. فالوطنية فى نظرها عمل سام ومقدس ويجب ألا يلوث قط ..
***
وذات صباح وصلتها رسالة من هشام .. سرت بها وبكت فى وقت واحد .. فقد أخبرها بدفن زوجها فى اليوم التالى لمصرعة فى مدافن أهله بالبساتين .. وأبدى أسفه أنه كتم عنها الخبر فى وقتها حتى لا يروعها .. وهو يرجو أن تغفر له ما فعله بعد أن رأى فيه عين الصواب وعند عودته سيزور معها القبر ..
وبكت " سهير " لأن الرسالة أثارت أشجانها وسرت لأن هشام لا يزال حيا .. وإن لم تعرف مكانه ..
وكفكفت من عبراتها .. وأصبح تفكيرها كله فى هشام .. شغلت به وأصبح يتحرك معها فى حجرات البيت وأركانه ويدور ويسمع همسها ..
وكانت تستيقظ فى الليل على أحلام مروعة وأحلام ذهبية ..
ذات مرة تراه عابرا القنال وحده فى كيس من المطاط .. وعلى وجهه ابتسامة المنتصر .. ومرة أخرى ترى معه ثلاثة من الرفاق مجهزين بمثل عدته من السلاح والخناجر .. وأجهزة اللاسلكى والرصاص يتطاير حولهم ..
ثم تراه يعبر وحده فى صحراء سيناء يبحث عن الطريدة .. يبحث عن قاتل " مصطفى " وتراه قد أصيب برصاصة ولفظ .. وهو يجود بأنفاسه اسمها مرتين .. " سهير .. سهير .." من يسهر عليك من بعدى .. وأنت اليتيمة الوحيدة ..؟
***
استيقظت فى الصباح مذعورة .. ووجدت نفسها تندفع إلى تنفيذ فكرة سيطرت عليها تماما .. منذ سفره .. وبعد الحلم قررت تنفيذها ..
وعلى عجل ارتدت معطفها الأسمر وخرجت فى الصباح المبكر تبحث عن سيارة تقلها إلى السويس ..
ووجدت سيارة بعد ساعة من البحث حملتها مع ثلاثة آخرين من الركاب ..

وعجبت بعد أن تحركت بها السيارة كيف تركب مع غرباء لا تعرفهم .. ولكن اللهفة على لقاء هشام وتعرف أخباره أنستها كل ما تعودت عليه من حيطة فى مثل هذه الأحوال ..

ولم تبلغ الرحلة غايتها فقد أعيدت السيارة بركابها فى ثلث الطريق .. إذ كانت فى السويس معركة بالمدفعية والطائرات منذ الفجر ..

ورجعت حزينة كسيرة القلب وسيطر عليها احساس مدمر بالقلق جعلها تعيش كالشبح .. وأدركت أنها كانت السبب فى فقد صديقها الوحيد فى هذه الحياة .. والرجل الذى كانت تجد فيه العوض عن زوجها والبديل ..

***
ومر شهر .. و .. شهر آخر .. وهى فى قلق وتعاسة .. لاتسمع عن هشام خبرا .. ولاتقرأ كلمة .. فانتابها المرض وأصبحت حبيسة البيت وهى أشبه بالمشلولة ..
***
وفى ليلة من ليالى الشتاء الباردة وكانت " سهير " ساهرة تحت مرضها وهى فى أشد حالات المرض .. أحست بحركة المفتاح فى الباب الخارجى فنهضت فرحة لتستقبله بقميص نومها .. فلا أحد غيره معه المفتاح ..
وأضاء هشام مفتاح الردهة وبدا أمامها عملاقا رغم شحوبه وهزاله وعانقته بحرارة الأنثى وهى تجد أمامها بطلها قد عاد إليها فجأة بعد طول عذاب ويأس ..
ولما أخذ يهمس بما فعله ليثأر لها .. مرغت شفتيها فى فمه الملطخ بالتراب والعرق لتسكته ..
فلم تكن تريد من الحياة أكثر من ضمه إلى صدرها ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت فى كتاب " عودة الابن الضال " سنة 1993وفى كتاب قصص من حرب إسرائيل الأولى والثانية والثالثة والرابعة
الناشر مكتبة مصر ط 2007